شياطين الرداء الأبيض

..

شياطين الرداء الأبيض
فهد عامر الأحمدي

قرأت قبل فترة إحصائية تفيد بأنه من بين كل عشرين ممرضة توجد واحدة قاتلة وأربع تسببن بوفاة بعض المرضى، وأن من بين كل عشرين طبيبا متقاعدا هناك خمسة يعرفون أنهم قتلوا ذات يوم مريضا بالخطأ (ولاحظ عافاك الله يحدث هذا في ولاية نيوإنجلاند وليس في مستشفياتنا المجهزة برقابة أفضل) !!

وهذا في الحقيقة من مزايا العمل الطبي حيث يواري التراب أخطاء الجميع .. وحتى حين يُكتشف خطأ ما يبقى حسن النية هو الأصل والأساس حتى حين تصل الدعوى لمجالس القضاء !!

غير أن هناك مناسبات وظروفا تاريخية كثيرة تحول فيها الأطباء الى مجرمين وطغاة وشياطين تتوارى الشياطين من أفعالهم .. ومثل هذا السلوك يبرز بشكل واضح زمن الحروب حين تصبح حياة الإنسان أرخص من الرصاصة وأقل من أن تثير اهتمام أحد.

ومنذ أن جرب جنود جنكيز خان إبادة المدن المحاصرة بقذفها بالجثث المصابة بالجدري والطاعون فإن أشهر من مارس هذا العمل الأطباء النازيون بأعذار وحجج واهية (أبرزها "محاكاة" الظروف الَّتي يمر بها الجنود الألمان أثناء الحروب) .. فقد تعرض الأسرى مثلا لتجارب أشرف عليها الطبيب المخبول سيغموند راشر تضمنت حجزهم في غرف يرفع ضغطها تدريجياً حتى تنفجر رئاتهم ، أو تعريتهم في الأجواء الباردة أو إسقاطهم في البرك المثلجة لتمييز "الحدود" القصوى الَّتي قد يموت عندها جنود ألمانيا في الجبهات الروسية . كما أجريت تجارب أخرى على يد الدكتور أوغست هيرت في جامعة ستراسبورغ تم فيها إعدام وفصل رؤوس مئات الأسرى في معتقل أوشيتز لإجراء قياسات للجماجم تتعلق بما يعرف بعلم الأجناس (حيث تحدد الأجناس البشرية والمواهب الفردية من خلال قياسات الجمجمة) !!

... كما شملت تجارب الأطباء الألمان مجالات التطعيم بلقاحات التيفوس واليرقان، وزرع العظام، وغنغرينا الغازات والتعرض للغازات السامة وشرب مياه البحر المالحة.. وشارك في هذه التجارب أطباء عظام مثل كارل غيبهات وولفرام سيفرز (وكلاهما أعدم بعد الحرب) وفريتز فيتشر (الذي سجن مدى الحياة) والدكتور أوشيتز (الذي أعدم على يد النازيين) وأخيراً وليس آخراً أوغست هيرت (الذي هرب من ستراسبورغ ولم يعثر عليه أبداً) !

.. هذه الظاهرة اللاإنسانية لوحظت أيضا في اليابان أثناء احتلالها أجزاء كبيرة من الصين في أربعينيات القرن الماضي .. ففي ذلك الوقت دأب الأطباء اليابانيون على إجراء تجارب بشعة على الفلاحين الصينيين مثل اختبار فعالية التخدير على أفراد قطعت أيديهم وأرجلهم عمداً، أو إطلاق النار على الأصحاء لتدريب الممرضين على كيفية استخراج الرصاص. كما قامت الوحدة الطبية العسكرية 721 بتجارب طبية مروعة في إقليم شانكس راح ضحيتها ثلاثة آلاف أسير صيني وروسي وكوري.

ومن بين الجرائم الَّتي ارتكبتها تلك الوحدة اقتطاع نماذج من أدمغة الأسرى والمدنيين وتقديمها لشركات الأدوية لإجراء التجارب عليها.. كما أجريت تجارب موثقة على مرضى حقنوا بجراثيم مختلفة وآخرين نزعت أعضاؤهم للاستفادة منها معملياً ... وبعكس ماحدث في ألمانيا لم تتم محاكمة الأطباء اليابانيين بسبب استفادة المحتل الأمريكي من أرشيف التجارب التي عثر عليها فيما بعد !

... وفي عقد الخمسينيات خرج من كوريا وفيتنام نوع جديد من التجارب والأطباء القساة .. فإن كان هدف الألمان واليابانيين خدمة أغراض عسكرية وطبية بحتة ، فإن القوات الشيوعية في البلدين أتقنت فنوناً جديدة في التعذيب النفسي لاستقطاب الأسرى وتغيير أفكارهم فيما سمي على المستوى الشعبي ب"غسيل الدماغ" .. ورغم إلصاق هذه التجارب بالأنظمة الماركسية الشرقية (خصوصا أن الجنود الأمريكان في كوريا وفيتنام كانوا هم الضحية) ولكن الحقيقة هي أنها نضجت وتطورت على أيدي القوات الأمريكية في كوبا والعراق وأفغانستان هذه الأيام (حيث تم الدمج بين العقاقير والتعذيب والضغط النفسي لتحطيم التركيبة الشخصية والنفسية للإنسان) !

... وكما يعرف جميعنا .. ماخفي كان أعظم !