السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جيفري لانغ" والتفكر في القرآن الكريم
كيف نتعامل مع القرآن الكريم؟
سؤال أرَّق العلماء والمفكرين، وأحرج العبَّاد والمتصوفة...
فحاول البعض منهم جوابا من خلال الممارسة، والبعض الآخر بطرح نظريات، وفريق ثالث بنقد الواقع، ورابع بتمثل السنَّة النبوية وعصر الصحابة...
وأهمُّ ما في الأمر: أن يكون الجواب دقيقا شاملا، وأن يرقى إلى مستوى الفعل الحضاري التمكيني، وأن لا يرتطم بموج العاطفة الهائج، ولا يندفع إلى خضمِّ التخلف المائج...
ما أحوجنا إلى جواب شاف كاف، نظريا وتطبيقيا...
جواب يحوِّل الآية فينا إلى طاقة فعَّالة، وإلى فعل إيجابيٍّ...
جواب يحملنا على الرحمة والرأفة بالخلق، لا على الكره والانتقام من الخلائق...
جواب باختصار: يخرجنا من عصر التخلف إلى عهد التمكين لدين الله في أرض الله: "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ، وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ، وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا، يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا، وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" (سورة النور: 64)
وممن وفِّق في هذا السبيل أيما توفيق نذكر العالم الرياضيَّ الأمريكيَّ المسلم: جيفري لانغ، الذي اشتهر بكتابه "حتى الملائكة تسأل"...
هذا الذي ابتكر أسلوب السؤال في محاولة فهم القرآن، فترك عقله مفتوحا لكلِّ حيرة ولكلِّ استفهام، ثم أطلق عنانه للتفكير، ثم وجد الملاذ في كتاب ربِّ العزَّة سبحانه...
هذا الذي خلط مادَّة الحياة بمادة القرآن، فلم يقبل الانفصام الوهمي بينهما، ولا القبوع في زوايا البكاء الدائم، تحت رحمة الضعف والوهن والادعاء...
اسمع إليه وهو يقول: «لم أقرأ في حياتي شيئا سبَّب لي تشويشا أكثر من هذه الآيات: "وإذ قال ربُّك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة... أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" (البقرة: 30-39)... إذ لم أستطع التوقف لحظة عن التفكير فيها. كنت أفكّْر فيها ليل نهار: في أثناء الطعام، وخلال ذهابي إلى عملي وإيابي منه، وعندما أجلس وحدي، وحين أشاهد التلفاز، ووقت آوي إلى فراشي... وظللتُ أقلبها وأراجعها في ذهني محاولا تجميعها معاً كقطع الأحجية، وغدت هي المحك عند قراءتي لبقية القرآن»
وفي مكان آخر من كتابه "ضياع ديني" يقول: «ثم، بعد قراءتي للقرآن بوقت ليس بطويل، ربما بعد أسبوعين، أخذت أفكر فيه. كان يخطر ببالي على صورة سلسلة غير متوقعة، أفكر فيه وأنا أشاهد مباراة كرة القدم على شاشة التلفاز، وعندما أغوص في عالم وعيي»
لقد كان جيفري يقرأ القرآن بقلبه وعقله معاً، لا بقلبه فقط، ولا بعقله ليس إلاَّ... ومن ثمَّ نفعه نفعا حقيقا، ولم يهزَّه هزًّا عاطفيا آنيا، بل إنَّه طرح أسئلة محيرة في البدء، ثم حاول إيجاد الجواب عنها في كلام الله تعالى، ولم يدخل إليه خالي الوفاض من أيِّ حيرة، ولهذا كان له بمثابة الجواب الشافي، والدواء المعافي...
بل إنَّ جيفري حاول أن يستمع إلى صوت المؤلف – الله – وهو يقرأ القرآن، فقال: «لقد مرَّت عليَّ أوقات وأنا أقرأ القرآن، وأكون على وشك الاستسلام، أشعر أنَّ كلمات المؤلف – صوته – تغمرني، وأنَّ الله هو الذي يكلِّمني من خلال هذا الكتاب. ولا أرتبك إن قلت: إني كنت أتأثر بحيث تنهمر دموعي على وجنتي في مناسبات عديدة، وأشعر أني في حضرة قوة هائلة ورحمة غامرة. كانت اللحظات الروحية هذه تأخذني دائما على حين غرَّة. وكنت أحاول مقاومتها، وإبعادها عني، ولكنها كانت أقوى من أن تقاوم، وكانت مؤثرة جدا بحيث لا يمكن دفعها، لذلك كانت مقاومتي تضعف أكثر كلما توغَّلت في النص أكثر»
وبما أنَّ جيفري يتحدَّث في هذه الفقرة وهو لا يزال ملحدا، قبل أن يعلن إسلامه، فقد قال: «وأتت عليَّ لحظات تيقنت من وجود الله، عندما كنت أشعر بوجود إله أعرفه، ولكني كنت أحاول نسيانه. لم أعرف إن كنت في حالة أفضل أو أسوأ لدى قراءة القرآن، ولكني عرفتُ أني تغيَّرتُ، وأنِّي لم أعد أثق بإلحادي»
ما الذي نستفيده من هذه التجربة الفذَّة، التي تقشعر الجلود عند ذكرها؟
هل بات من الضروري أن ينضوَ الناس عنهم ثوب الإسلام التقليدي، ثم يلبسوا لباس الإيمان من جديد، حتى يكون القرآن لهم هاديا ونورا؟
أم أنَّ مثل هذا الإجراء ارتداد عن دين الله، وشك في رحمته؟
ثم، هل يمكن أن نتحدَّث عن عالمية القرآن الكريم، ونحن نمارس الفعل المحلي بكلِّ مواصفاته... بعيدا عن عالم الملحدين، وعالم الشاكين، وعالم المرتابين... بل وبعيدا عن عالم الأقوياء المتحكمين اليوم في دواليب السلطة والعلم في الأرض... وبعيدا عن عالَم المستضعفين من بلاد باتت لقمة سائغة للتنصير والتهويد؟
فهل الجهود العالمية بحق هي تلك التي برزت في أعمال محمد مهاتير، وطارق رمضان، ومحمد فتح الله كولن، وهارون يحي... من خلال مخاطبهم للعالَم بلغاته كلها، لا بلغة منزوية مترهلة مدعية... فأسلم على إثرهم الكثير، وثبت على الإيمان بفضلهم الآلاف، بل الملايين.
ومن قبلهم، تمثل القرآن الكريم في جهود حزب الله من خلال ربطه الوثيق بين الإيمان والجهاد، وكذا إيران التي هزت أركان الجبروت العالمي بقوة الفعل، لا بفعل القوَّة... بالعلم لا بالجهل، بتجسير الهوة بين قرآن الهداية وقرآن التمكين؟
فهل نحن فاعلون؟ أم أننا بالادعاء موصومون؟
هذه دعوة إلى الحقيقة وإلى العدل والإنصاف، فلينظر كل واحد منا ماذا هو فاعل؟
فإنَّ الله تعالى قال وقوله الحق: "إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ"