المغرب...دلالة هذا الإسم تاريخيا
بقلم : مبارك بلقاسم
الثقافة رموز. والرموز تشكل الثقافات. والثقافات تتغير لأن الرموز تتغير. وهذا التغير أو التغيير في الرموز قد يكون اختياريا أو أوتوماتيكيا يأتي عن طريق التطور الطبيعي وقد يكون مفروضا من طرف أيديولوجيا أو سلطة سياسية أو دينية.
ولا تخرج تسمية “المغرب” عن هذا الإطار. فقد نجحت الدولة المرّوكية / المغربية الحديثة بعد 1956، وباستخدام مؤسساتها الإدماجية، في توطين وغرس تسمية “المغرب” كاسم شرعي ووحيد لبلادنا، فقط لأن نخبة سياسية معينة رأت أن هذا الاسم هو الذي يعبر عن تاريخ وهوية هذه البلاد أحسن تعبير!
واليوم أصبحت كلمة “المغرب” اسما رسميا شبه مقدس للبلاد. وهذا الاسم أصبح عاديا وممتزجا بالحقائق المسلم بها كالماء والهواء بحيث لا يبالي أحد بالتمحيص فيها ومناقشتها في غمرة الحياة اليومية السريعة.
“المغرب” يعني المكان الذي تغرب إليه أو فيه الشمس. ولكن هذا “الغروب” هو بالنسبة لمن؟ هل هو بالنسبة للصينيين أم السنغاليين أم المكسيكيين؟ إنه بالنسبة للعرب الذي يعيشون في منطقة غرب آسيا، حيث أن بلاد الأمازيغ وبلاد الأقباط موجودة في موقع غروب الشمس بالنسبة لهم. والعرب استخدموا البديهة والمنطق في هذه التسمية. ولذلك فهم في هذا غير ملومين على الإطلاق. ولكن كلمة “المغرب” بمفهومها العربي خاطئة تماما بالنسبة لنا نحن الأمازيغ، لأن بلادنا تقع في وسط العالم بالنسبة لنا. وكل أرض تقع شرقنا فهي شرق أو مشرق، وكل بلاد تقع غربنا فهي غرب أو مغرب. أما نحن الأمازيغ فلسنا مشرقا ولا مغربا.
وبهذا المنطق، يحق لنا أن نسمي أميركا الشمالية ببلاد مغرب الشمس Tamurt n ughlay n tfuyt أو بلاد الغرب Ataram لأن شمسنا تغرب في ذلك الاتجاه. وهكذا يحق لكل شعب أن يرى العالم بمنظوره الخاص ويعبر عنه برموزه وطريقته الخاصة. فخريطة العالم المسطحة كما عرفناها في الكتاب المدرسي تضع قارتي أفريقيا وأوروبا في الوسط، بينما تبدو القارة الأميركية في الغرب (يسار الخريطة) وتبدو القارتان الأسيوية والأسترالية في الشرق (يمين الخريطة). ولكن هذه الخريطة التي اعتدنا عليها ليست هي الخريطة الوحيدة الصحيحة التي تعبر عن العالم وشكل الكرة الأرضية. فالأمريكيون مثلا يرون العالم بمنظورهم الخاص ويعتبرون نفسهم وسط العالم. وهكذا بالنسبة لهم تقع القارة الأمريكية في الوسط وتقع أوروبا وأفريقيا شرقهم بينما تقع آسيا غربهم!
قمت باستعراض هذه الأمثلة البسيطة لتبيان الشذوذ المعنوي الذي يمثله الاسم الأجنبي الذي نطلقه على بلادنا: “المغرب”. فحتى اسم بلادنا يستخدم كلوحة مرورية إرشادية لإرشاد العرب إلى موقع “المغرب” غرب بلاد العرب!
ولو كان اسم “المغرب” اسما محليا أصيلا صنعه سكان البلاد بأنفسهم وارتضوه لبلادهم، لكان هذا الشذوذ مقبولا لأنه منتوج محلي مرتبط بالثقافة المحلية. ولكن المصيبة هي أن هذا الاسم أجنبي صنعه أجانب بلغة أجنبية ومدلول أجنبي خاطئ جغرافياً بالنسبة لنا.
وحتى نكون دقيقين وموضوعيين لا نأخذ فقط بالتعميمات الكسولة، فلنطرح بعض الأسئلة المباشرة مثل: من أين أتى اسم “المغرب”؟ ومتى أصبح “المغرب” اسما رسميا شرعيا لهذه البلاد التي ولدنا فيها؟ وما هو الاسم (أو الأسماء) التي أطلقها أصحاب الأرض (الأمازيغ) على بلادهم؟ وكيف تعوّد الأمازيغ على “المغرب” بعد 1956؟
فكما تقدم سلفا يرجع اسم “المغرب” إلى العرب الذين سموا البلاد الشاسعة التي تقع غربهم وعند مغرب شمسهم بـ”المغرب”. هذا “المغرب” يمتد من بلاد القبط (مصر) إلى مياه بحر الظلمات (المحيط الأطلسي) الذي كانوا يضنونه نهاية العالم.
والمؤرخون العديدون الذين كتبوا باللغة العربية وذكروا “المغرب” و”بلاد المغرب” بشكل مكثف في مصنفاتهم كانوا يقصدون به منطقة شمال أفريقيا والصحراء الكبرى ككل. وبالتالي فإن كلمة “المغرب” لدى المؤرخين العرب والمؤرخين الأمازيغ الذين كتبوا بالعربية كانت مصطلحا جغرافيا فضفاضا أو ربما جيوبوليتيكيا مثلما هو مصطلح “الشرق الأوسط” اليوم، حيث أنه لا يعبر عن دولة بعينها ولا حتى عن اتحاد سياسي، بل يعبر عن مساحة جغرافية عامة قد لا يتفق الجميع على حدودها بالضبط!
والشيء المؤكد هو أنه لم تكن هناك في التاريخ أبدا دولة اسمها “دولة المغرب” أو “مملكة المغرب” أو “إمارة المغرب” في أية منطقة من مناطق شمال أفريقيا. وبالتالي فليس هناك شيء اسمه “الهوية المغربية” لا في الماضي ولا في الوقت الحاضر، بل هناك فقط “هوية أمازيغية” استوعبت ثقافات أجنبية مع الحفاظ على الثقافة الأمازيغية كعامل ثابت. وأيضا ليس هناك شيء اسمه “الإنسان المغربي” بل هناك فقط “إنسان أمازيغي” ارتبط بهذه الأرض منذ آلاف السنين.
والدول التي يخبرنا التاريخ بوجودها لم تحمل أبدا اسم “المغرب” بل حملت أسماء المناطق الجغرافية الأمازيغية أو أسماء القبائل الأمازيغية الحاكمة. فقد كانت هناك المملكة المسايسولية، والمملكة الموريطانية، والمملكة النوميدية المازيلية، ودولة بورغواطة ببلاد تامسنا، ودولة مكناسة (ئمكناسن)، ودولة آيت مدرار الزناتية، ودولة آيت يفرن الزناتية، ودولة ئمغراون، ودولة بني زيري، ودولة بني زيان، ودولة الأدارسة، ودولة الأغالبة، والدولة الرستمية، والدولة الحفصية، والدولة المرابطية (ئمرابطن)، ودولة الموحدين (ئموحدن)، ومملكة فاس، ومملكة مراكش، وإمارة النكور، والدولة المرينية، والدولة السعدية، وجمهورية الريف، والدولة العلوية. هذه الأخيرة (العلوية) كان ملوكها العلويون مثلا يختمون رسائلهم إلى رؤساء الدول الأجنبية وكذا ظهائرهم السلطانية بعبارة “سلطان مراكش”. وبالتالي فـ”المغرب” كان دائما مصطلحا غير ذي صبغة رسمية على الإطلاق، وكان يستخدمه فقط المؤرخون. ونفس الشيء ينطبق على مصطلحات “المغرب الأقصى” و”المغرب الأوسط” و”المغرب الأدنى” التي لم تكن أبدا أسماء لدول أو ممالك أو إمارات بل كانت مصطلحات ابتدعها المؤرخون واستخدموها في كتاباتهم فقط. أما على المستوى الشعبي فبقي مصطلح “المغرب” مجهولا وغير متداول لدى الأمازيغ، بالضبط مثل مصطلح “البربر” الذي كان هو الآخر مجهولا تماما من طرف الشعب الأمازيغي ولم يستخدمه إلا المؤرخون.
وبعد تخلص بلادنا من الاحتلال الفرنسي المباشر، اختارت دولة الاستقلال تبني مصطلح “المغرب” كاسم رسمي للبلاد. ولا يعرف بالضبط من كان وراء اقتراح مصطلح “المغرب” والترويج له، ولكن يبدو أن استخدامه شاع في أوساط النخب الفاسية وما يسمى بـ”الحركة الوطنية” في أواسط القرن العشرين. ومن الحقائق المؤكدة أن بلادنا كانت معروفة في القرون 18 و19 و20 على الأقل بـ: موراكوش/ مراكش التي اشتقت منها كلمة أمرّوك، وكذا الكلمات Marruecos الإسبانية، و Morocco الإنكـليزية، و Marokko الهولندية / الألمانية، و Marocco الإيطالية، و Maroc الفرنسية، و Marroc الكاتالانية وغيرها. وكان العرب في العصر الحديث وإلى وقت قريب يطلقون على بلادنا “مراكش”. ومن أراد أن يتأكد فليراجع الخرائط والكتب والقواميس العربية المشرقية المطبوعة في الستينات والسبعينات والثمانينات. ومن الجدير بالذكر أن الإيرانيين والأفغان ما زالوا يطلقون على بلادنا بالفارسية اسم “مراكش” إلى يومنا هذا. ونفس الشيء ينطبق على الباكستانيين الذين ما زالوا يسمون بلادنا “مراكش” بلغتهم الأوردو التي يتكلمها 150 مليون شخص.
وإخواننا الجزائريون يستخدمون كلمة “المرّوك” دائما في لغتهم اليومية البسيطة التلقائية سواء أكانت الأمازيغية الجزائرية أو العربية الدارجة الجزائرية. وهذا طبعا بصرف النظر عن استخدام كلمة “المغرب” في الإعلام الجزائري المتلفز والمكتوب حيث الاصطناع والتكلف هما السائدان. وما زال الأمازيغ في أعماق الريف والأطلس الذين لم تمسسهم موجة التعريب أو الفرنسة يستخدمون كلمة “أمرّوك” لذكر بلدهم. ونفس الشيء ينطبق على الناطقين باللغة الأمازيغية في بلادنا حيث يستعملون كلمة “دزاير” للإشارة إلى الجزائر.
تمكنت الدولة بسهولة من توطين وغرس كلمة “المغرب” عبر مناهج التعليم والإعلام الرسمي منذ 1956 مع بدء حملة التعريب والفرنسة التي نفذها حزب الاستقلال العروبي القومجي وحلفاؤه المفرنسون من عملاء فرنسا “الوطنيين” وأعيان المدن. حينذاك كانت كذبة “الظهير البربري” لا تزال ساخنة. وكان مجرد الكلام حول أمازيغية البلاد يجر على صاحبه الويل والثبور. منذ 1956 نجحت الدولة في تعريب جزء مهم من ساكنة البلاد الأمازيغية كما حدث في منطقة زمور والريف الغربي وأجزاء من أقصى الريف الشرقي ومناطق أخرى عديدة.
واليوم نلاحظ أنه حتى المثقفون والمناضلون الأمازيغ قد تناسوا “موراكوش” و”أمرّوك” وتقبلوا “لمغريب” عن طيب خاطر، كما يبدو. مما يشكل فتحا عظيما في سياسة التعريب والتخريب التي نهجتها وما زالت تنهجها الدولة. إذا كنا قد نسينا اسم بلادنا، التي هي محور هذه الملحمة كلها، فما الذي بقي لنا بعد ذلك؟!
إنه شيء غريب حقا أن شعوب أوروبا وآسيا وأفريقيا وأميركا ما زالت تحتفظ لنا باسم بلدنا الأمازيغي الأصيل بتنوعاته المختلفة (مراكش، أمرّوك، Morocco ، Marruecos ...) بينما ضيعناه نحن المرّوكيين المراكشيين الحقيقيين واستسلمنا لموجة التعريب والمسخ والتشويه، وأصبح معظم الشباب الأمازيغي في بلادنا اليوم لا يعرف إلا “لمغريب”!!
إن كلمة “المغرب” الأجنبية عن الشعب الأمازيغي وما تختزنه من مفارقات ساخرة ومعانٍ خاطئة ليست المصيبة الوحيدة التي تشوه أو تحرف صورة بلادنا في عيوننا نحن الأمازيغ.
بلادنا الأمازيغية لا تسمى فقط (رسميا) باسم أجنبي، بل إن “علمها الوطني” الرسمي هو أيضا أجنبي!
التاريخ الحديث يخبرنا بأن الحاكم بسلطة الاحتلال الفرنسي (المقيم العام) هوبير ليوطي قرر إزالة النجمة السداسية من العلم المخزني الأحمر وقرر تعويضها بنجمة خماسية خضراء تم تسويقها من طرف الدولة بعد 1956 على أنها ترمز لأركان الإسلام الخمسة!! في حين أن الحاكم ليوطي فعل ذلك، على الأرجح، لسببين: أولهما شيوع الماسونية في أوساط النخب الفرنسية والأوروبية، حيث تعتبر النجمة الخماسية من أهم رموز المنظمات الماسونية. والنجمة الخماسية الماسونية هي في الحقيقة تنويعة لرمز البركار والزاوية القائمة التي كانت الرمز الأول لمنظمات البنائين الأحرار Free Masons أو الماسون في أوروبا. وثاني الأسباب قد يكون متمثلا في حساسية ليوطي تجاه كل ما هو يهودي (النجمة السداسية). وتلك الحساسية السلبية تجاه اليهود كانت سائدة في كثير من بلدان أوروبا في ذلك الوقت قبل أن يتغير ذلك بعد الحرب العالمية الثانية. مع ملاحظة أن النجمة السداسية اليهودية قد يحتمل أن يكون أصلها أمازيغيا قبل استخدامها من طرف اليهود. كما أن ليوطي أراد على الأرجح أن يقوم بتغيير “معنوي رمزي” بجانب التغيير المادي الذي نفذته فرنسا: الاحتلال.
هذا “العلم الوطني المغربي”، الذي تقرر تحديد شكله ولونه ونجمته الخماسية الماسونية بجرة قلم الحاكم ليوطي وبتوقيع السلطان العلوي للظهير المتعلق به في نونبر 1915، أصبح اليوم ضمن لائحة مقدسات الوطن!
أليس هذا التقديس لـ”العلم الوطني” تقديسا لروح الفقيد ليوطي وأفعاله وتاريخ الاحتلال الفرنسي بوطننا المرّوكي المراكشي؟!
إنه لمثير للخجل والخزي حينما نحس بهذا العبث والتلاعب الفاحش الذي ارتكبه أولئك الأجانب والمغامرون والمحتلون دون أن نتحرك اليوم لإزالة هذا العبث عن بلادنا. فاللوم لا يقع على هؤلاء الأجانب والمحتلين الذين عاشوا حياتهم وماتوا واندثروا، وإنما اللوم والتقريع يقع علينا نحن الشعب الأمازيغي الذين ما زلنا نبتلع هذه الخزعبلات ونتنفسها ونتقيأها ثم نبتلعها من جديد كل يوم وكل ساعة وكل لحظة.
إننا نحن الأمازيغ لم نقم بعد بتصفية مسألتنا التاريخية ومعالجتها بشكل صحيح عبر التخلص من الخرافات والأكاذيب والبحث عن الحقيقة. ما زلنا محاطين بنسيج كثيف من الأكاذيب والأراجيف والخرافات والتاريخ المزور. هذا النسيج يحجب عنا النور.. يحجب عنا حقيقة من نحن ومن نكون.
وهذا النسيج من الأكاذيب والأساطير والتاريخ المزور المنمق هو الذي يسوغ التدخل الأجنبي ويعدّنا إعدادا نفسيا لقبول الأجنبي وما يقوله ويقرره الأجنبي. بلادنا تسمى باسم رسمي أجنبي، وعلمها الرسمي وضعه أجنبي، ولغتها الرسمية في الدستور أجنبية، ولغة التعليم العالي والاقتصاد والإعلام أجنبية. بلادنا محسوبة على منظمات عرقية ولغوية أجنبية، والأجانب من فرنسيين وعرب وإسبان يقررون من شؤون البلاد أكثر مما يقرره أصحاب الأرض ويتمتعون بخيرات البلاد أكثر مما يتمتع به أصحاب الأرض. وكل هذا يؤدي إلى الطامة الكبرى ألا وهي أننا نحن الأمازيغ نحس مع أنفسنا بأننا أجانب في هذه الأرض التي كانت يوما أرضنا وحدنا!