مقدمة حول جوامع الكلم النبوي
خص الله نبيه صلى الله عليه وسلم بجملة من الخصائص , من أهمها , أنه أوتي جوامع الكلم وخواتمه وفواتحه , واختصر له الكلام اختصاراً , فجمع الله له المعاني الكثيرة في ألفاظ يسيرة , وجعل ذلك من أدلة نبوته , وأعلام رسالته , ليسهل على السامعين حفظه , ولا يشق عليهم حمله وتبليغه , وكل هذا من الحفظ الذي تكفّل الله به لهذا الدين .
ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
( بعثت بجوامع الكلم , ونصرت بالرعب , وبينا أنا نائم أُتيتُ بمفاتيح خزائن الأرض , فوضعت في يدي ).
وفي رواية للترمذي ( فُضِّلْتُ على الأنبياء بستٍّ , أعطيت جوامع الكلم , ونصرت بالرعب , ......... الحديث ) .
قال الزهري " وبلغني أن جوامع الكلم أن الله يجمع الأمور الكثيرة التي كانت تكتب في الكتب قبله في الأمر الواحد والأمرين أو نحو ذلك " .
وجوامع الكلم التي بعث بها نبينا عليه الصلاة والسلام , تشمل ما جاء في القرآن من الآيات الجامعة , كقوله عز وجل :
{إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي }
( النحل 90 )
فإن هذه الآية لم تترك خيراً إلا أمرت به ولا شراً
إلا نهت عنه , وهي مما بعث به صلى الله عليه وسلم .
وتشمل أيضا ما جاء في كلامه صلى الله عليه وسلم
مما هو مروي في كتب السنة ,
والمقصود هنا الكلام على النوع الثاني ,
وهو جوامع الكلم النبوي .
وقد وردت عن الأئمة المتقدمين عدة أقوال في تحديد أصول الأحاديث النبوية أو الأحاديث الجامعة التي يدور عليها الدين , فمن ذلك ما جاء عن الإمام أحمد -رحمه الله - أنه قال : " أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث :
حديث عمر :
( إنما الأعمال بالنيات ),
وحديث عائشة :
( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ),
وحديث النعمان بن بشير :
( الحلال بيِّنٌ والحرام بيِّن )
وقال الإمام أبو داود :
"نظرت في الحديث المسند فإذا هو أربعة آلاف حديث ,
ثم نظرت فإذا مدار أربعة آلاف الحديث على أربعة أحاديث ,
حديثِ النعمان بن بشير :
( الحلالُ بيِّنٌ والحرامُ بيِّن ),
وحديث عمر :
( إنما الأعمال بالنيات ),
وحديث أبي هريرة :
( إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ......... الحديث ) ,
وحديث : ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ) ,
قال : فكل حديث من هذه الأربعة ربع العلم ".
وأنشد بعضهم :
عمدة الدين عندنا كلمات أربع من كلام خير البرية
اتق الشبهات وازهد ودع ما ليس يعنيك واعملن بنية
ويعني بقوله " ازهد " حديث :
(ازهد في الدنيا يحبك الله ....الحديث ) .
وقد اجتهد أهل العلم في جمع تلك الأحاديث الجوامع , وصنفوا في ذلك المصنفات , حتى جاء الإمام النووي- رحمه الله -, فجمع اثنين وأربعين حديثاً جامعاً عليها مدار الدين , وهي التي عرفت فيما بعد "بالأربعين النووية" , واشتهرت هذه الأربعين وأقبل الناس على حفظها ونفع الله بها , ببركة نية صاحبها وحسن قصده , وقد شرحها الحافظ ابن رجب الحنبلي شرحا نفيساً في كتابه جامع العلوم والحكم , وزاد عليها ثمانية أحاديث تمام الخمسين .
فينبغي على المسلم أن يعتني بهذه الأحاديث حفظا وفهما ودراسة , وأن يجعلها من أوائل الأحاديث التي يُربَّى عليها الأطفال والناشئة , وسنعرض في المواضيع القادمة بعض هذه الأحاديث بشيء من التفصيل والشرح , والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
من جوامع الكلم النبوي...الحلال بيِّن والحرام بيِّن
من الأحاديث الجامعة التي يذكرها أهل العلم , ويولونها المزيد من العناية والاهتمام , حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال :
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
( إن الحلال بيِّنٌ وإن الحرام بيِّنٌ , وبينهما أمور مشتبهاتٌ لا يعلمهن كثير من الناس , فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعِرضه , ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام , كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه , ألا وإن لكل ملك حمىً , ألا وإن حمى الله محارمُه , ألا وإن في الجسد مضغةً إذا صلَحت صلَح الجسد كله , وإذا فسَدت فسَد الجسد كله :
ألا وهي القلب )
رواه البخاري ومسلم .
فهذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الشريعة , وأحد الأحاديث التي يدور عليها الدين وقد عده بعض أهل العلم ثلث الإسلام أو ربعه , ويعنون أن الإسلام يدور على ثلاثة أحاديث أو أربعة منها هذا الحديث.
فقوله صلى الله عليه وسلم :
( إن الحلال بين وإن الحرام بين )
يعني أن الحلال والحرام الصريح الواضح قد بُيِّن أمره للناس بحيث لا يحتاجون معه إلى مزيد إيضاح وبيان , وليس لهم عذر في مخالفة الأمر والنهي بدعوى نقص البيان وعدم الوضوح , فإن الله عز وجل قد أنزل على نبيه الكتاب , وبين فيه للأمة ما تحتاج إليه من أحكام ,
قال تعالى :
{ ونزَّلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء }
(النحل 89)
وقال تعالى في آخر آية من سورة النساء بعد أن ذكر فيها كثيرا من الأحكام الشرعية :
{ يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم }
( النساء 176) .
وقال عز وجل :
{ ومالكم أن لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم }
( الأنعام119) .
وهذا هو مقتضى عدل الله ورحمته بعباده فلا يمكن أن يعذب قوما قبل البيان لهم وقيام الحجة عليهم , ولذلك قال سبحانه :
{وما كان الله ليضل قوما بعد
إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون }
( التوبة 115) .
وما لم يرد بيانه مفصلاً في كتاب الله تعالى فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد بينه في سنته تحقيقا لقوله تعالى :
{ وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم }
( النحل 44) .
ولكن هناك أمور تشتبه على كثير من الناس , فلا يعرفون حكمها هل هي من الحلال أم من الحرام ؟ , وأما الراسخون في العلم فلا تشتبه عليهم , ويعلمون من أي القسمين هي , وهذه هي الأمور المشتبهات التي قال عنها صلى الله عليه وسلم
( وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ) .
ثم قسَّم النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالنسبة إلى هذه الأمور المشتبهة إلى قسمين :
القسم الأول : من يتقي هذه الشبهات ويتركها ,
طلبا لمرضاة الله عز وجل , وتحرزا من الوقوع في الإثم ,
فهذا الذي استبرأ لدينه وعرضه , أي طلب البراءة لهما , فحصل له البراءة لدينه من الذم الشرعي , وصان عرضه عن كلام الناس فيه , وفيه دليل على أن من ارتكب الشبهات , فقد عرض نفسه للقدح والطعن , كما قال بعض السلف :
"من عرَّض نفسه للتُّهم فلا يلومنَّ من أساء الظن به " .
والقسم الثاني : من وقع في هذه الشبهات مع علمه بأن هذا الأمر فيه شبهة ,
فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من فعل ذلك فقد وقع في الحرام ,
بمعنى أن الإنسان إذا تهاون وتسامح في الوقوع في الشبهات ,
وأكثر منها , فإن ذلك يوشك أن يوقعه في الحرام ولا بد ,
وهو لا يأمن أن يكون ما أقدم عليه حراماًَ في نفس الأمر ,
فربما وقع في الحرام وهو لا يدري .
ثم ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلا لمن يقع في الشبهات ,
وهو أن كل ملك من ملوك الدنيا له حمى يُضرب حول ملكه ,
ويُمنع الناس من دخوله أو انتهاكه , ومن دخله فقد عرض نفسه للعقوبة ,
فمن رعى أغنامه بالقرب من هذا الحمى فإنه لا يأمن أن تأكل ماشيته منه ,
فيكون بذلك قد تعدى على حمى الملك , ومن احتاط فابتعد ولم يقارب ذلك الحمى فقد طلب السلامة لنفسه ,
وهذا مثل حدود الله ومحارمه , فإنها الحمى الذي نهى الله عباده عن الاقتراب منه أو تعديه , فقال سبحانه :
{ تلك حدود الله فلا تقربوها }
(البقرة 187) ,
وقال : { تلك حدود الله فلا تعتدوها }
( البقرة 229 ) ,
فالله عز وجل قد حدَّ للعباد حدودا بين فيها ما أَحَلَّ لهم وما حَرَّم عليهم , ونهاهم عن الاقترب من الحرام أو تعدي الحلال , وجعل الواقع في الشبهات كالراعي حول الحمى أو قريبا منه يوشك أن يدخله ويرتع فيه , فمن تعدى الحلال ووقع في الشبهات , فإنه قد قارب الحرام وأوشك أن يقع فيه .
ثم ختم النبي صلى الله عليه وسلم الحديث بذكر السبب الذي يدفع العبد إلى اتقاء الشبهات والمحرمات أو الوقوع فيهما , ألا وهو صلاح القلب أو فساده , فإذا صلح قلب العبد صلحت الجوارح والأعمال تبعا لذلك , وإذا فسد القلب فسدت الجوارح والأعمال , فالقلب أمير البدن , وملك الجوارح , وبصلاح الأمير أو فساده تصلح الرعية أو تفسد , فإذا كان القلب سليما حرص العبد على اجتناب المحرمات وتوقي الشبهات , وأما إذا كان القلب فاسدا قد استولى عليه اتباع الهوى والشهوات , فإن الجوارح سوف تنبعث إلى المعاصي والمشتبهات تبعا له , فالقلب السليم هو عنوان الفوز عند الله عز وجل قال تعالى :
{يوم لا ينفع مال ولا بنون .
إلا من أتى الله بقلب سليم }
(الشعراء 88-89) .
ففي هذا الحديث العظيم حث للمسلم على أن يفعل الحلال ،
ويجتنب الحرام ، وأن يجعل بينه وبين الحرام حاجزا وهو اتقاء الشبهات ،
وأن يحتاط المرء لدينه وعرضه ، فلا يقدم على الأمور التي توجب سوء الظن به ,
وفيه أيضا تأصيل لقاعدة هامة من قواعد الشريعة ,
وهي قاعدة سد الذرائع إلى المحرمات وتحريم الوسائل إليها ,
وفيه كذلك تعظيم أمر القلب , فبصلاحه تصلح أعمال الجوارح وبفساده تفسد ,
نسأل الله أن يصلح قلوبنا وأن يثبتها على دينه .
من جوامع الكلم النبوي . . .حديث جبريل الطويل
من الأحاديث العظيمة التي بين النبي صلى الله عليه وسلم فيها أصول الدين , حديث جبريل المشهور , عندما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم , على هيئة رجل يسأله ويستفتيه عن بعض المسائل الهامة , والحديث رواه الإمام مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم , إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب , شديد سواد الشعر , لا يُرى عليه أثر السفر , ولا يعرفه منا أحد , حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم , فأسند ركبتيه إلى ركبتيه , ووضع كفيه على فخذيه , وقال : يا محمد , أخبرني عن الإسلام ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله , وتقيم الصلاة , وتؤتي الزكاة , وتصوم رمضان , وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ) .
قال : صدقتَ , قال : فعجبنا له يسأله ويصدقه .
قال : فأخبرني عن الإيمان ؟
قال : ( أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر , وتؤمن بالقدر خيره وشره ) .
قال : صدقت .
قال فأخبرني عن الإحسان ؟
قال : ( أن تعبد الله كأنك تراه , فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) .
قال : فأخبرني عن الساعة ؟
قال : ( ما المسئول عنها بأعلم من السائل ) .
قال : فأخبرني عن أمارتها ؟
قال : ( أن تلد الأمة ربَّتها , وأن ترى الحفاة
العراة العالة رعاءَ الشاء يتطاولون في البنيان ) .
قال : ثم انطلق , فلبثتُ ملِيَّا ,
ثم قال لي : ( يا عمر , أتدري من السائل ؟ ) .
قلت : الله ورسوله أعلم .
قال : ( فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ) .
فهذا الحديث قد اشتمل على بيان أصول الدين وقواعده , ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في آخره
( هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ) ,
فجعل ما في هذا الحديث بمنزلة الدين كله .
بدأ جبريل بسؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام , والإسلام هو إظهار الخضوع للشريعة و التزام ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عند ربه , وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بأعمال الجوارح الظاهرة , ومن هذه الأعمال ما هو بدني كالصلاة والصوم , ومنها ما هو مالي كإيتاء الزكاة , ومنها ما هو مركب منهما كالحج فهو عبادة مالية وبدنية .
وأما الإيمان فقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بالأعمال الباطنة , فقال : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله , والبعث بعد الموت , وتؤمن بالقدر خيره وشره , وهذه هي أصول الإيمان الخمسة التي ذكرها الله عز وجل في مواضع من كتابه , كقوله تعالى :
{ ومن يكفر بالله وملا ئكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيداً }
(النساء 136).
وقال سبحانه :
{ إنا كل شيء خلقناه بقدر }
(القمر 49) .
وإنما فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين الإسلام والإيمان , فجعل الإسلام خاصا بأعمال الجوارح الظاهرة , وجعل الإيمان خاصا بالأعمال الباطنة , لاجتماع هذين الاسمين معاً في سياق واحد , فكان لكل واحد منهما معنى خاصا , وأما إذا ذكر كل واحد منهما على انفراد فإن أحدهما يدخل في الآخر , فيدخل في الإسلام الاعتقادات والأمور القلبية , كما قال عز وجل :
{ إن الدين عند الله الإسلام }
(آل عمران 19) ,
وكذلك الإيمان إذا ذكر مفردا فإنه تدخل فيه أعمال الجوارح الظاهرة , قال صلى الله عليه وسلم :
( الإيمان بضع وسبعون شعبة , فأفضلها قول لا إله إلا الله ,
وأدناها إماطة الأذى عن الطريق , والحياء شعبة من الإيمان }
أخرجه مسلم .
وأما الإيمان بالقدر فهو على أربع مراتب كما بين أهل العلم :
الأولى : مرتبة العلم , وهي الإيمان بأن الله تعالى سبق في علمه ما كان وما سيكون من أفعاله وأفعال عباده , وأن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علما .
والثانية : مرتبة الكتابة , وهي الإيمان بأنه تعالى كتب في اللوح المحفوظ ما سيكون إلى يوم القيامة , وذلك قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة , وكان عرشه على الماء .
والثالثة : مرتبة المشيئة , وهي الإيمان بأن ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وأنه لا يخرج شيء في هذا الكون عن إرادته الكونية ومشيئته جل وعلا .
والمرتبة الرابعة : الخلق والإيجاد , وهي الإيمان بأن الله خالق كل شيء , فالعباد مخلوقون ، وأفعالهم مخلوقة , قال عز وجل :
{ والله خلقكم وما تعملون }
(الصافات 37)
وكل ما سوى الله مخلوق مفتقر إليه سبحانه وتعالى .
وأما درجة الإحسان فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن العبد لن يستطيع أن يصل إليها إلا بأن يعبد الله كأنه يعاينه وينظر إليه , فإنه إذا استحضر ذلك عند أداء العبادة , فلن يترك شيئا يقدر عليه من الخضوع والخشوع وحسن السمت واجتماع القلب والاعتناء بإتمام العبادة إلا أتى به , ومن شق عليه ذلك فليعبده عبادة من يعلم أن الله يراه ويطلع عليه , والمقصود هو الحث على الإخلاص في العبادة , ومراقبة الله عز وجل في السر والعلن , وهي درجة رفيعة ومقام عال , لا يصل إليه إلا القليل من الناس , وقد دل القرآن على هذا المعنى في مواضع متعددة كقوله تعالى :
{ وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه }
( يونس 61) .
ثم سأل جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة , فأخبره أن السائل والمسؤول علمهم عنها سواء , فالساعة علمها عند ربي في كتاب , وهي أحد مفاتيح الغيب الخمسة التي لا يعلمها إلا الله عز وجل , فسأله عن علاماتها فذكر له النبي صلى الله عليه وسلم علامتين :
العلامة الأولى : أن تلد الأمة ربتها وسيدتها , فإن السيد إذا وطئ أمته فأنجبت له أولادا كان هؤلاء الأولاد بمنزلة أبيهم في الحرية والسيادة , فكأنه صلى الله عليه وسلم يشير إلى أنه في آخر الزمان , ستفتح البلاد على المسلمين , ويكثر الرقيق والإماء حتى يكون للأمة أولاد من سيدها , فإذا وقع ذلك كان علامة على قرب الساعة ودنو أجلها .
العلامة الثانية : أن ترى الحفاة العراة الفقراء رعاة الغنم والشياة , الذين كانوا لا يملكون شيئا من حطام الدنيا , يتطاولون ويشيدون المباني العالية , مباهاة ومفاخرة , والمقصود أن الأسافل والأراذل يصيرون رؤساء على الناس , وأن الأمر سيوسد إلى غير أهله .
فمن تأمل هذا الحديث وجد أن قد اشتمل على شرح جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة , من عقود الإيمان , وأعمال الجوارح , وإخلاص السرائر , والتحفظ من آفات الأعمال , فصلوات الله وسلامه على من أوتي جوامع الكلم .
النصيحة . . . . مفهومها أنواعها شروطها
للنصيحة شأن عظيم في حياة الفرد والأمة على حد سواء , فهي أساس بناء الأمة , وهي السياج الواقي بإذن الله من الفرقة والتنازع والتحريش بين المسلمين ، هذا التحريش الذي رضيه الشيطان بعد أن يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ,كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه مسلم :
( إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب , ولكن في التحريش بينهم ) .
لقد رضي بالتحريش لأنه بداية طبيعية للعداء والتفرق والتنازع , المؤدي إلى الاقتتال وذهاب الريح .
وأعظم حديث جامع يبين مفهوم النصيحة الشرعية وحدودها , الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن تميم الدَّاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( الدين النصيحة ثلاثا ,
قلنا : لمن يا رسول الله ؟
قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامَّتهم ) .
فهذا الحديث له شأن عظيم , فهو ينص على أن عماد الدين وقوامه بالنصيحة , فبوجودها يبقى الدين قائما في الأمة , وبعدمها يدخل النقص على الأمة في جميع شؤون حياتها.
وقد كان منهج أنبياء الله ورسله مع أممهم مبنياً على النصح لهم والشفقة عليهم ،قال نوح عليه السلام مخاطبا قومه :
{ أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون }
( الأعراف 62ا ) .
وقال صالح لقومه : {يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين}
( الأعراف 79ا ) ،
وقال هود : { أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين }
( الأعراف 68ا ) .
والنصيحة كلمة يعبر بها عن إرادة الخير للمنصوح له , ولا يمكن أن يعبر عن هذا المعنى بكلمة واحدة تحصرها وتجمع معناها غير هذه الكلمة , وأنواعها خمسة وهي التي ذكرت في الحديث :
الأول : النصيحة لله : وتكون بالاعتراف بوحدانيته وتفرده بصفات الكمال ونعوت الجلال , والقيام بعبوديته ظاهراً وباطناً ، والإنابة إليه كل وقت ,مع التوبة والاستغفار الدائم , لأن العبد لا بد له من التقصير في شيء من الواجبات و التجرؤ على بعض المحرمات , وبالتوبة والاستغفار ينجبر النقص , ويُسَدُّ الخلل.
الثاني : النصيحة لكتاب الله وتكون بحفظه وتدبره ، وتعلم ألفاظه ومعانيه , والاجتهاد في العمل به في نفسه وتعليمه غيره .
الثالث : النصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم : وتكون بالإيمان به ومحبته ، وتقديمه على النفس والمال والولد ، واتباعه في أصول الدين وفروعه ، وتقديم قوله على قول كل أحد , والاهتداء بهديه ، والنصر لدينه وسنته .
الرابع : النصيحة لأئمة المسلمين وهم الولاة , من الإمام الأعظم إلى الأمراء والقضاة وجميع من لهم ولاية عامة أو خاصة , وتكون هذه النصيحة باعتقاد ولايتهم , والسمع والطاعة لهم ، وحث الناس على ذلك ، وبذل ما يستطاع في إرشادهم للقيام بواجبهم , وما ينفعهم وينفع الناس .
الخامس النصيحة لعامة المسلمين وتكون بمحبة الخير لهم كما يحب المرء لنفسه , وكراهية الشر لهم كما يكره لنفسه .
ولابد في النصيحة من ثلاثة أمور :
أولها : الإخلاص لله تعالى في النصيحة لأنه لب الأعمال , ولأن النصيحة من حق المؤمن على المؤمن , فوجب فيها التجرد عن الهوى والأغراض الشخصية والنوايا السيئة التي قد تحبط العمل , وتورث الشحناء وفساد ذات البين .
وثانيها : الرفق في النصح ,وإذا خلت النصيحة من الرفق صارت تعنيفا وتوبيخا لا يقبل ، ومن حرم الرفق فقد حرم الخير كله كما أخبر بذلك نبينا عليه الصلاة والسلام .
وثالثها : الحِلْم بعد النصح , لأن الناصح قد يواجه من يتجرأ عليه أو يرد نصيحته , فعليه أن يتحلى بالحلم , ومن مقتضيات الحلم : الستر والحياء وعدم البذاءة , وترك الفحش .
وإن من الحكمة والبصيرة في النصيحة معرفة أقدار الناس ,
وإنزالهم منازلهم ، والترفق مع أهل الفضل والسابقة ,
وتخير وقت النصح المناسب ,
وتخير أسلوب النصح المتزن البعيد عن الانفعالات ,
وانتقاء الكلم الطيب والوجه البشوش والصدر الرحب ،
فهو أوقع في النفس وأدعى للقبول وأعظم للأجر عند الله .
فهذه هي حدود النصيحة الشرعية , وخلاف ذلك هو الإرجاف والتعيير والغش الذي هو من علامات النفاق عياذا بالله , قال على رضي الله عنه :
" المؤمنون نصحة والمنافقون غششة " ،
وقال غيره :
" المؤمن يستر وينصح والفاجر يهتك ويعير" .
فالنبي صلى الله عليه وسلم فسر النصيحة بهذه الأمور الخمسة ,
التي تشمل القيام بحقوق الله ، وحقوق كتابه ، وحقوق رسوله ،
وحقوق جميع المسلمين على اختلاف أحوالهم وطبقاتهم ,
فشمل ذلك الدين كله ،
ولم يبق منه شيء إلا دخل في هذا الكلام الجامع المحيط ,
فكان لزاما على المسلمين أخذ النصيحة خلقا بينهم ,
فهي القاطعة لفساد ذات البين والتحريش ,
والموصلة لمعاني الأخوة والمحبة في الله ,
وهي العامل الأهم في تماسك الجماعة والأمة , والله الموفق
من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه
العبادة هي الغاية من وجود الإنسان في هذه الحياة , وهي التي من أجلها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب ,
{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} .
( الذاريات 56) .
والله عز وجل كما أنه لم يخلق هذا الإنسان عبثا بل خلقه لغاية محددة , ووظيفة عظيمة , فكذلك لم يتركه هملا لا يعرف كيف يؤدي هذه الوظيفة التي من أجلها خُلِق , فخلقه وعلمه , ودله على الطريق الموصلة إليه سبحانه , وجعلها طريقا واحدة , دليلها الكتاب , وبابها الرسول , فمن أراد سلوك الطريق من غير دليل تاه , ومن أراد الولوج من غير باب الرسالة وبدون مفتاح النبوة فقد ضل سواء السبيل , فبين سبحانه للناس على ألسنة رسله كيف يعبدوه ويوحدوه , وحدد لهم مجالات هذه العبادة وضوابطها , فلا يعبد إلا الله وحده , ولا يعبد كذلك إلا بما شرعه من الدين .
وجاءت النصوص الكثيرة في الكتاب والسنة تحث على الاعتصام بالوحي واتباعه , وتحذر من اتباع غيره من الأهواء والضلالات قال تعالى:
{ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون }
( الأنعام 153) .
وحذر سبحانه من مخالفة أمر رسوله وسنته وشريعته فقال عز وجل :
{فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}
( النور 63) .
من أجل ذلك كان أحد الأحاديث الجامعة التي وضحت هذا المعنى , ووضعت القواعد والضوابط لهذه القضية , حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )
رواه البخاري ومسلم ,
وفي رواية لمسلم :
( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ) .
فهذا الحديث أصل عظيم من أصول الإسلام , وهو مكمِّل ومتمِّم لحديث إنما الأعمال بالنيات , ويدخل في هذين الحديثين الدين كله ، أصوله وفروعه ، ظاهره وباطنه , فحديث عمر ميزان للأعمال الباطنة ، وحديث عائشة ميزان للأعمال الظاهرة , ففيهما الإخلاص للمعبود ، والمتابعة للرسول , اللذان هما شرط لقبول كل قول وعمل ، ظاهر وباطن , فمن أخلص أعماله لله , متبعاً في ذلك رسول الله , فعمله مقبول , ومن فقد الأمرين أو أحدهما فعمله مردود عليه , وقد جمع الله بين هذين الشرطين في قوله جل وعلا :
{ فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا }
( الكهف 110).
وقد دل الحديث على أن كل عمل ليس عليه أمر الشارع فهو مردود على صاحبه , وفي قوله صلى الله عليه وسلم : ( ليس عليه أمرنا ) إشارة إلى أن أعمال العباد كلَّها ينبغي أن تكون تحت أحكام الشريعة , فتكون الشريعة حاكمةً عليها بأمرها ونهيها , فمن كان عمله جاريا تحت أحكام الشريعة موافقا لها فهو المقبول , ومن كان عمله خارجا عنها فهو المردود .
ولخطورة الابتداع في الدين والإحداث فيه , جاء ذم البدع والنهي عنها , والتنفير من أهلها , فالبدع في الحقيقة مضادة للشريعة , مراغمة لها , والمبتدع ببدعتة قد نصب نفسه منصب المستدرك على الشرع بزيادة أو نقصان , فلم يكتف بما شُرِع له , وهو بلسان حاله , يتهم الرسول کصلى الله عليه وسلم بالتقصير في أداء الأمانة والرسالة , فإن نبينا عليه الصلاة والسلام لم يترك خيرا إلا دلنا عليه , ولا شرا إلا حذرنا منه , ولذلك قال الإمام مالك رحمه الله : " من أحدث في هذه الأمة شيئا لم يكن عليه سلفها , فقد زعم أن محمدا خان الرسالة ,
لأن الله يقول :
{اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}
( المائدة 3 )
فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا " ، ولا يخفى ما جرته البدع على الأمة قديما وحديثا من الفتن والويلات , والتفرق والاختلاف في الدين .
والبدعة هي كل ما يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه دينا يُعبد الله به ويتقرب إليه , من اعتقاد أو قول أو عمل , وهي تشمل العبادات والمعاملات , والفعل والترك , فكما تكون بفعل غير المشروع , تكون أيضا بترك ما هو مشروع ومباح , إذا تركه الإنسان بقصد القربة والتدين , ولذلك لما جاء ثلاثة نفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته , , فلما أُخبروا كأنهم تقالُّوها , فقالوا : وأين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر , فقال أحدهم : أما أنا فإني أصلي الليل أبدا , وقال الآخر : وأنا أصوم الدهر ولا أفطر , وقال الثالث : وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا , فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
( أنتم الذين قلتم كذا وكذا , أما والله أني لأخشاكم لله وأتقاكم له , لكني أصوم وأفطر ,
وأصلي وأرقد , وأتزوج النساء , فمن رغب عن سنتي فليس مني )
أخرجاه في الصحيحين .
والبدع جميعُها تشترك في وصف الضلالة , فليس فيها ما هو حسن وما ليس بحسن , فقد جاء في الصحيح من حديث العرباض بن ساريةرضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة )
زاد النسائي
( وكل ضلالة في النار ) .
إلا أنها ليست على رتبة واحدة في الضلال , فمنها البدع الكبيرة والصغيرة والمكفرة وغير المكفرة .
فهذا الحديث على قلة ألفاظه حوى من المعاني والمسائل الشيء الكثير , فقد بين الضابط العام والقاعدة الكلية التي توزن بها الأعمال , وعلى ضوئها يحكم بمشروعيتها أو عدمها .
ومن خلاله يتبين أن مقتضى العبادة التي خُلِق لها الإنسان , أن يجعل المسلم أقواله وأفعاله وسلوكه وتصرفاته وفق المناهج التي جاءت بها الشريعة , وأن يفعل ذلك طاعة واستسلاما وانقيادا لأمر الخالق جل وعلا , وشعاره في ذلك ما أخبر الله به عن المؤمنين المفلحين في قوله :
{إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون}.
كتبه طلاب علم
وتم نشره في موقع اسلام ويب